حيث لا ينفع الندم
جاء كتاب مصارع العشاق للسراج القاري حافلاً بالعديد من قصص العشق، ويعد هذا الكتاب واحد من مصنفاته الهامة والذي عمل فيه على جمع العديد من الروايات عن العشاق الذين صرعهم الحب مستنداً في هذه الروايات لعدد من المحدثين والمخبرين، والسراج القارئ هو جعفر بن أحمد بن الحسين السراج وكنيته أبو محمد ولقبه القاريء، وكان واحد من علامات زمانه.
ونروي هنا إحدى القصص التي وردت بالكتاب تحت عنوان "مجنون دير هرقل"
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، بباب الندوة، في سنة ست وأربعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن الصديق بنسف قال: حدثنا أبو يعلى محمد بن مالك الرقي قال: حدثنا عبد الله بن عبد العزيز السامري قال: مررت بدير هرقل أنا وصديق لي، فقال لي: هل لك أن تدخل فترى من فيه من ملاح المجانين؟ قلت: ذاك إليك.
فدخلنا فإذا بشاب حسن الوجه، مرجل الشعر، مكحول العين، أزج الحواجب، كأن شعر أجفانه قوادم النسور، وعليه طلاوة تعلوها حلاوة، مشدود بسلسلة إلى جدار، فلما بصر بنا قال: مرحباً بالوفد، قرب الله ما نأى منكما، بأبي أنتما.
قلنا: وأنت، فأمتع الله الخاصة والعامة بقربك، وآنس جماعة ذوي المروءة بشخصك، وجعلنا وسائر من يحبك فداءك.
فقال: أحسن الله عن جميل القول جزاءكما، وتولى عني مكافأتكما.
قلنا: وما تصنع في هذا المكان الذي أنت لغيره أهل؟
فقال:اللهُ يعلمُ أنّني كَمِدُ، لا أستطيعُ أبثُّ ما أجِد، نَفسانِ لي: نفسٌ تضَمّنَها بَلَدٌ، وأُخرَى حازَها بَلَدُ، أمّا المُقيمةُ ليس ينفعُها صَبرٌ، وليس بقربها جلَدُ، وأظنّ غائبَتي كشاهِدَتي، بِمكانِها تجِدُ الذي أجِدُ.
ثم التفت إلينا فقال: أحسنت؟
قلنا: نعم، ثم ولينا
فقال: بأبي أنتم ما أسرع مللكم، بالله أعيروني أفهامكم وأذهانكم.
قلنا: هات!
فقال:
لَـمّـا أَنـاخـوا قُـبَيلَ الـصُبحِ عـيسَهُم
وَثَــوَّروهـا فَـثـارَت بِـالـهَوى الإِبِــلُ
وَأَبـرَزَت مِن خِلالِ السَجفِ iiناظِرَها
تَــرنـو إِلَــيَّ وَدَمــعُ الـعَـينِ iiيَـنـهَمِلُ
وَوَدَّعَــــت بِــبَـنـانٍ خِــلـتُـهُ iiعَــنَـمـاً
فَـقُـلتُ لا حَـمَـلَت رِجــلاكَ يــا iiجَـمَلُ
وَيـلي مِـنَ الـبَينِ مـاذا حَلَّ بي iiوَبِها
مِن نازِحِ الوَجدِ حَلَّ البَينُ iiفَاِرتَحَلوا
يـا حـادِيَ الـعيسِ عَرِّج كَي أُوَدِّعَها
يـا حـادِيَ العيسِ في تِرحالِكَ iiالأَجَلُ
إِنّـي عَـلى الـعَهدِ لَم أَنقُض iiمَوَدَّتَهُم
يا لَيتَ شِعري بِطولِ العَهدِ ما فَعَلوا
فقلنا، ولم نعلم بحقيقة ما وصف، مجوناً منا: ماتوا!
فقال: أقسمت عليكم! ماتوا؟
فقلنا لننظر ما يصنع: نعم، ماتوا.
قال: إني والله ميت في أثرهم، ثم جذب نفسه في السلسلة جذبةً دلع منها لسانه، وندرت لها عيناه، وانبعثت شفتاه بالدماء، فتلبط ساعة، ثم مات.
فلا أنسى ندامتنا على ما صنعنا